فى يوم ما طلب منى القديس الراحل القمص بيشوى كامل مرافقة معلم الكنيسة ويدعى بطرس حنا إلى بطريركية الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية، وهناك رأيت القديس الراحل البطريرك البابا كيرلس السادس واقفا ببساطة واتضاع، وأمامه طابور من الرجال والسيدات وكان كل من يقف أمامه ينحني له ويقبل يده، فخرجت من الطابور واقتربت منه حتى أرى أفضل, ولاحظت إن عيون قداسة البابا تنظر إليّ بشدة، ثم فوجئت به بشير بيده نحوي ويقول: يا زكريا تعالى عندي, فقلت في داخلي إن المعلم بطرس حنا هو الذي اخبره بأسمى, فنظرت إلى من يقف أمامه فوجدته رجلا آخر، ثم نظرت إلى الطابور فوجدت المعلم بعيدا، فاندهشت وذهبت إليه وفوجئت به يحتضنني ويضمني إلى صدره بحب وفرح وسعادة كأني حبيب له لم يراه منذ سنوات, ثم وضع صليبه على رأسي وصلى باللغة القبطية.
ثم قال لي قداسة البابا ثلاث مرات:المسيح يحبك, وفى كل مره كنت أشعر إن محبة المسيح تنسكب في قلبي بغنى للتمتع, وببراءة شديدة ضحك كطفلاً صغيراً بريئاً ممتلئاً بالسعادة وقال لي "أنت اللص الذي سرق ملكوت السموات" وأخذ يضحك مع نفسه، وكان بعينيه بريقا لامعا،ثم اخرج زجاجة بها زيتاً كان يأخذ منها بإصبعه ويرسم بها صلبانا على أماكن متفرقة في وجهي ورأسي ويدي ورقبتي وجسدي، وكان يقول كلاما لا أفهمه, وفى النهاية شعرت بالبهجة والسعادة والفرح والراحة
وبينما كنت أمسك يد المعلم لكي أسير به لأنه فاقداً لبصره، اكتشف أن في معصم يدي مادة سائلة، فسألني عن مصدرها، فقلت له إن قداسة البابا قد مسحني بها، فأرتبك وتغير صوته، وأخذ يسألني عن الأماكن التي مسحنى فيها، وكنت أحددها له ثم قال بدهشة انه زيت الميرون, وطلب منى عدم مغادرة الكنيسة وعرض على القديس الراحل كل ما سمعه، ثم طلبني القديس الراحل وأخذ يطرح الأسئلة, ماذا قال لك البابا؟ ماذا فعل؟ ماذا قلت؟ بماذا شعرت؟ ثم كشف عن الأماكن ورأى آثار الزيت عليها, ثم قال لمن حوله "املئوا جرن المعمودية بالماء" والتفت إلى وقال "سوف تتعمد وتصبح من الآن مسيحياً تشهد للمسيح"
وأخذني إلى الهيكل وخلعت كل ملابسي ونزلت عرياناً في مكان ضيق به ماء، وكان يقول كلاماً من كتاب في يده وهو يضع الماء على رأسي في المرات الثلاثة، ثم خرجت من الماء وأخذ يدهنني بالزيت في أماكن متفرقة من جسدي ويقول كلاما يجعلني أردده من بعده
وكان ذلك يوم الأربعاء 4-1- 1961
:الآنَ يَقُولُ الرَّبُّ: «ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ», وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لأَنَّهُ رَأُوفٌ رَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ, لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَنْدَمُ فَيُبْقِيَ وَرَاءَهُ بَرَكَةَ تَقْدِمَةٍ وَسَكِيباً لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ, اِضْرِبُوا بِالْبُوقِ فِي صِهْيَوْنَ. قَدِّسُوا صَوْماً. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ, اِجْمَعُوا الشَّعْبَ. قَدِّسُوا الْجَمَاعَةَ. احْشِدُوا الشُّيُوخَ. اجْمَعُوا الأَطْفَالَ وَرَاضِعِي الثُّدِيِّ. لِيَخْرُجِ الْعَرِيسُ مِنْ مِخْدَعِهِ وَالْعَرُوسُ مِنْ حَجَلَتِهَا, لِيَبْكِ الْكَهَنَةُ خُدَّامُ الرَّبِّ بَيْنَ الرِّواقِ وَالْمَذْبَحِ وَيَقُولُوا: «اشْفِقْ يَا رَبُّ عَلَى شَعْبِكَ وَلاَ تُسَلِّمْ مِيرَاثَكَ لِلْعَارِ حَتَّى تَجْعَلَهُمُ الأُمَمُ مَثَلاً. لِمَاذَا يَقُولُونَ بَيْنَ الشُّعُوبِ: أَيْنَ إِلَهُهُمْ؟»
وفي تلك الليلة التاريخية امتلكتني مشاعر قوية مختلفة, فقد شعرت بفرح عظيم, فرحا من ذلك النوع الذي قيل عنه انه فرح لا ينطق به ومجيد, فرحاً فيه كل الفرح، ولم أعد أفكر في البحث عن أفراح أخرى، فقد وجدت فرحى كاملا في المسيح وشعرت في داخلي بسلامً عظيم، سلام من ذلك النوع الذي قيل عنه انه سلام يفوق كل عقل، وشعرت بأن مياها لذيذة قد غمرت نفسي ومتعتني بالارتواء, كحديقة سقطت علنها الأمطار فروت كل أشجارها وأغصانها وأوراقها، لقد شعرت إن هناك شئ ما قد أضاء في نفسي، أو كأن أمواجا كهربائية قد سرت في كل كياني، أو كأن أعضاء جسدي قد تحركت من أماكنها، وكنت كمن يسير على الهواء لا على الأرض، وأصبحت مشاعري رقيقة حساسة، واستيقظ ضميري، فبكيت بكاء شديداً جداً، وسالت دموعي بغزارة فوق مياه معموديتي، ولم أتوقف عن البكاء إلا بعد أن أصيبت رأسي بصداع شديد، وحينما خرجت من الكنيسة وجدت المعلم والفراش والمحصل بالخارج, ولما سألت عن القديس الراحل قال لي المحصل بعصبية لقد أنتظرك أبونا أكثر من ثلاثة ساعات وأنت تبكى، وهو ينتظرك، وأخيرا قال لنا: دعوه يبكى ولا يزعجه أحدا حتى يخرج وحده، ثم انصرف .
وحدث ما أدهشني وأدهش كل من يعرفني، فقد ماتت في داخلي الرغبة في التدخين والخمور والمخدرات، وكف نداء صوت الخطية في حياتي ولم أعد أشتهي النساء، بل ولا أنظر إليهن، أو أسلم بيدي عليهن, وكرهت السرقة والاحتيال والشر والقمار والزنا والفجور والشهوات, وعرفت معنى الآية الجملية التي تقول "لانه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر - تى 2 : 11
وليس هذا فقط، بل حدث تغيير كامل شامل في حياتي، فقد تغير الفكر والسمع والبصر واللسان والأحاسيس والإرادة والعواطف، كأني ولدت من جديد, وعرفت معنى الآية الصادقة التي تقول "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة, الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا - 2 كو 5 : 17
ومن هذا اليوم تضاءلت كل الأشياء الأرضية ولم أعد احتاج إلى شئ من هذا العالم، ولم يعد للرب يسوع المسيح أي منافس له في حياتي, وسقط أمهر الصيادين في شبكة صائد الصيادين, ووقع المحتال الخطير في يد المسيح القدير, سقط صائدا الفلوس في يد مخلص النفوس, حتى إنني قد تعجبت من قدرة الله وقلت له "عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقينا - مز 139 : 14
وفى داخل الكنيسة كان القديس الراحل أبونا بيشوي كامل يتحدث مع بعض الأشخاص، فلما رآني اقبل نحوى بفرح وأخذني في حضنه وسالت دموعي على صدره. فأخذني إلى مكتبه، وحدثني من جديد عن الصليب والآلام والجهاد، ثم كتب ورقة بها عنوانا باسم إنسانا يدعى "جابر عبد المسيح وهبه".. وطلب منى السفر فوراً إلى القاهرة لمقابلة، فسافرت وتقابلت معه, وكان جابر عبد المسيح هذا مسلماً وصار مسيحياً هو الآخر، وكان الأب الروحي لكل المسلمين الذين أصبحوا مسيحيين في مصر، وكان له نشاطا كبيرا مع المسلمين الذين يريدون أن يصيروا مسيحيين، ومع المسيحيين الذين يريدون أن يصيروا مسلمين, وكان يجمع حوله مجموعة كبيرة من المسيحيين ذو الأصل الإسلامي، يعاونونه في هذه الأعمال، فعملت معه، وكان يرسلني إلى المهمات الصعبة التي تحتاج إلى جرأة وشجاعة ومواجهة، ومع مرور الأيام أصبحت الرجل الثاني بعده، وكان يأتي إلينا طلبة جامعيون ومثقفون وعمالا ليعرفوا من هو المسيح، وكان بعضهم يؤمن، وبعضهم لا يؤمن، وكانت الكنائس من كل الطوائف ترسل لنا أي إنساناً مسلماً يريد أن يكون مسيحيا.
وكنا نعمل لهما اجتماعاً خاصا مساء كل يوم جمعة في إحدى الكنائس القبطية الأرثوذكسية, وكان لي شرف قيادة هذا الاجتماع من ترنيمات وعظات وصلوات ومقارنات, وفى يوم ما جاءني أحد رجال البوليس السرى وكان يدعى محمد، ولم يكن له سوى إصبعاً واحداً في إحدى يديه؛ وكنا نطلق عليه أبو صباغ, وكان يقف دائما أمام الكاتدرائية ليجمع معلومات عن قداسة البابا والأساقفة ورؤساء الأديرة والرهبان؛ والقسس الإنجيليين؛ وكل من أصبح مسيحياً من المسلمين, وكان يحمل لكل من كان مسلما أصبح مسيحيا حقدا وغيظا وعداوة لا مثيل لهما إطلاقاً, ولما جاء الصول أبو صباع لي قال أن الضابط المسئول عن المسلمين الذين صاروا مسيحيين يريد مقابلتك
فذهبت معه إلى إدارة المباحث العامة بحي لاظوغلي بالقاهرة, وقابلت ضابطاً ممتلئ الجسم أبيض الشعر حاد النظرات يدعىمنصور حلمي أحمد، وفوجئت انه يعرف كل شئ عنى حتى ساعة عمادي واسم والدتي. وقال له الصول محمد أبو صباع "هذا الولد ثعبان يجب أن يقطع رأسه لأنه وراء عودة كل من كان يريد أن يصبح مسلماً المسيحيين؛ كما أنه قد جعل مسلمين كثيرين يصيرون مسيحيين, فقلت له أنا فعلت كل ذلك، كيف؟ هل أنا الله؟ فقال الضابط منصور حلمي احمد لن نحدثك عن عودتك إلى الإسلام، فنحن قد عرفنا أنك حالة ميئوسا منها، ولكننا نعرف انك رجلا محبا لوطنك, وطلب منى أن أكون عميلاً سرياً للمباحث العامة وأخبره بأسماء وعناوين جميع المسلمين الذين أصبحوا مسيحيين؛ وأسماء الكهنة والقسس الذين قاموا بعمادهم؛ وأيضا أسماء وعناوين المسيحيين الذين لهم نشاطا في الكنائس، وأيضاً أسماء كل من يريدون أن يكونوا مسيحيين, ووعدني بمكافأة مالية كبيرة ومرتباً كبيراً كل شهراً، ثم هددني بالاعتقال إذا لم أنفذ طلباته، وأمهلني يوماً واحداً للعودة ومعي كل الأسماء والعناوين, وبعد خروجي من المبنى قلت لنفسي إنني ضد الخائن، ولا أحب الخيانة؛ ولا يمكنني أن أخون أحداً؛ فهذا مستحيل
ووجدت أن الحل هو الهروب إلى الصعيد، فذهبت إلى حبيبي وصديقي القديس الراحل البابا كيرلس السادس وعرضت على قداسته رغبتي في الوعظ بكنائس الوجه القبلي، فأعطاني خطابات إلى كل أساقفة الوجه القبلي، فسافرت وكان كل أسقف يعاملني بمحبة شديدة، وبعد حوالي عام عدت إلى القاهرة، وتقابلت مع صديق لي قال أن البوليس قد اعتقل جابر عبد المسيح هو ومجموعة من زملائك؛ ثم أفرجوا عنهم وبعد عدة سنوات هاجر أخي جابر عبد المسيح إلى الولايات المتحدة الأمريكية هو أسرته وشقيقته حياة وزوجها رشدي وأولادهم وآخرين، وتحملت الخدمة التي كان يقوم بها وحدي.